ان الله كان عليكم رقيبا
لو عقل كل إنسان قول الله تعالى “إِن اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” لأحجم كثيرون عن الإقدام على المعصية، وبخاصة إيذاء الغير، ومن الأمور التي تلفت النظر في هذه الآية، أن هذه الجزئية جاءت بعد النص على العلاقات الاجتماعية، لا أقول بين المسلمين بل بين البشر أجمعين، وذلك في قوله تعالى: “يَا أَيهَا الناسُ اتقُواْ رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتقُواْ اللّهَ الذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِن اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً” .
وقد فصل الحق مظاهر هذه الرقابة في كثير من آي القرآن الكريم، وفي مقدمة ذلك الرقابة على الأقوال، وأقوال الإنسان أكثر من أفعاله، قال تعالى “وَأَسِروا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدُورِ” . وذكر القرآن أن أقوال الإنسان تسجل عليه، ويسأل عنها يوم القيامة، قال تعالى “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” . “لقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الذِينَ قَالُواْ إِن اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ . . .”، “قَالَ رَبي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السمِيعُ الْعَلِيمُ”، “إِنهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ” . . إلى غير ذلك من الآيات .
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بضبط اللسان عند النطق، وفي الحديث (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك) .
إن الكلمة المنطوق بها قادرة على إيقاد نار الفتنة وقادرة على إخمادها، وهي سبب لإشعال الحروب وإطفائها، وكم من كلمة أراقت دماء، وأخرى حقنتها، وكلمة هتكت أعراضاً وأخرى صانتها .
إن للكلمة قوة السحر في التأثير أو أكثر من ذلك، ولذلك حرص الإسلام على ضبط الكلمة وانتقائها وحسن أدائها عند التلفظ بها، درءاً للفتنة وبعثاً على الأمن، قال تعالى “وَقُولُواْ لِلناسِ حُسْناً” .
كما أن الكلمة الطيبة الحسنة تؤدي إلى ترقيق القلب وتفتح العقل للاستماع، وإن لم يكن الاستجابة، وقد أمر الله موسى وهارون بأن يذهبا إلى فرعون وأوصاهما قائلا: “فَقُولَا لَهُ قَوْلاً ليناً لعَلهُ يَتَذَكرُ أَوْ يَخْشَى” . ولذلك أنزل الإسلام الكلمة الطيبة خير منزلة وفي الحديث (الكلمة الطيبة صدقة) .
وبعد الرقابة على الأقوال تأتي الرقابة على الأفعال، وما أظن مسلماً يجهل قول الله تعالى “وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” . وكثرت الآيات التي تحذر من سوء الفعل، لأن العقاب المترتب عليه عظيم، قال تعالى “اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” . وقد ختمت ثلاث عشرة آية في القرآن الكريم بقوله تعالى “بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” . وختمت خمس عشرة آية بقوله “بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ” . فضلا عن الآيات التي فيها صيغ مختلفة مثل “خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” . “بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ” .
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بحسن العمل، وفي الحديث “اعمل ما شئت فإنك مجزي به” . وقوله صلى الله عليه وسلم (خيركم من طال عمره وحسن عمله) . وأسمى مراتب المراقبة على الأفعال استشعار المسلم معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
وإذا كانت الرقابة على الأقوال والأفعال ممكنة للأنظمة البشرية، فإن الإسلام قد نص على لون من الرقابة لا قبل للأنظمة البشرية به، ألا وهو الرقابة على مكنونات النفس، قال تعالى “وَأَسِروا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدُور* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ” . كما ختم الحق اثنتي عشرة آية بوصف ذاته بأنه “عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدُور” .
إن هذه النصوص إن روعي حقها وتم الالتزام بها على وجهها، تجعل من المسلم إنساناً ملائكياً لا يفكر إلا في الخير ولا يضمر إلا الخير ولا سبيل للاسترسال مع نزغ الشيطان أو وساوسه، ومن رحمة الله تعالى أنه غفر لهذه الأمة (ما تحدث به نفسها ما لم تقل أو تفعل) . وذلك في ما يتعلق بإرادة فعل الشر، وأما فعل الخير فعليه الأجر، وأما طهارة الباطن فقيد لصحة الأعمال، وكم من نصوص أوجبت الترفع عن ضغائن بالنفس إن أطلق لها العنان أدت إلى الفساد مثل الحقد والحسد والبغضاء والشحناء، وهي صفات أو أمراض تقوم بالقلب بالدرجة الأولى .
ويتجلى معنى المراقبة لله حتى يصل إلى حركة العين من حيث الغمز واللمز ومع قدح القرآن لمن يسلك هذا السلوك في قوله “وَيْلٌ لكُل هُمَزَةٍ لمَزَةٍ” . فإن القرآن قد صرح بعلم الله بخائنة الأعين قال تعالى “يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدُورُ” .